سورة هود - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}
اعلم أن الآية المتقدمة اشتملت على خطابين: أحدهما: خطاب الرسول، وهو قوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} والثاني: خطاب الكفار وهو قوله: {وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله} [هود: 13] فلما أتبعه بقوله: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} احتمل أن يكون المراد أن الكفار لم يستجيبوا في المعارضة لتعذرها عليهم، واحتمل أن من يدعونه من دون الله لم يستجيبوا، فلهذا السبب اختلف المفسرون على قولين: فبعضهم قال: هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، والمراد أن الكفار إن لم يستجيبوا لكم في الإتيان بالمعارضة، فاعلموا أنما أنزل بعلم الله. والمعنى: فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقيناً وثبات قدم على أنه منزل من عند الله، ومعنى قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي فهل أنتم مخلصون، ومنهم من قال فيه إضمار، والتقدير: فقولوا أيها المسلمون للكفار اعلموا أنما أنزل بعلم الله.
والقول الثاني: أن هذا خطاب مع الكفار، والمعنى أن الذين تدعونهم من دون الله إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة، فاعلموا أيها الكفار أن هذا القرآن إنما أنزل بعلم الله فهل أنتم مسلمون بعد لزوم الحجة عليكم، والقائلون بهذا القول قالوا هذا أولى من القول الأول، لأنكم في القول الأول احتجتم إلى أن حملتم قوله: {فاعلموا} على الأمر بالثبات أو على إضمار القول، وعلى هذا الاحتمال لا حاجة فيه إلى إضمار، فكان هذا أولى، وأيضاً فعود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب، وأقرب المذكورين في هذه الآية هو هذا الاحتمال الثاني، وأيضاً أن الخطاب الأول كان مع الرسول عليه الصلاة والسلام وحده بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ} [هود: 13] والخطاب الثاني كان مع جماعة الكفار بقوله: {وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله} [هود: 13] وقوله: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} خطاب مع الجماعة فكان حمله على هذا الذي قلناه أولى. بقي في الآية سؤالات:
السؤال الأول: ما الشيء الذي لم يستجيبوا فيه؟
الجواب: المعنى فإن لم يستجيبوا لكم في معارضة القرآن، وقال بعضهم فإن لم يستجيبوا لكم في جملة الإيمان وهو بعيد.
السؤال الثاني: من المشار إليه بقوله: {لَكُمْ}؟
والجواب: إن حملنا قوله: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} على المؤمنين فذلك ظاهر، وإن حملناه على الرسول فعنه جوابان: الأول: المراد فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين، لأن الرسول عليه السلام والمؤمنين كانوا يتحدونهم، وقال في موضع آخر فإن لم يستجيبوا لك فاعلم.
والثاني: يجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السؤال الثالث: أي تعلق بين الشرط المذكور في هذه الآية وبين ما فيها من الجزاء.
والجواب: أن القوم ادعوا كون القرآن مفترى على الله تعالى، فقال: لو كان مفترى على الله لوجب أن يقدر الخلق على مثله ولما لم يقدروا عليه، ثبت أنه من عند الله، فقوله: {أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} كناية عن كونه من عند الله ومن قبله، كما يقول الحاكم هذا الحكم جرى بعلمي.
السؤال الرابع: أي تعلق لقوله: {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} يعجزهم عن المعارضة.
والجواب فيه من وجوه:
الأول: أنه تعالى لما أمر محمداً صلى الله عليه وسلم حتى يطلب من الكفار أن يستعينوا بالأصنام في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنها لا تنفع ولا تضر في شيء من المطالب ألبتة، ومتى كان كذلك، فقد بطل القول بإثبات كونهم آلهة، فصار عجز القوم المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلاً لإلهية الأصنام ودليلاً على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان قوله: {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} إشارة إلى ما ظهر من فساد القول بإلهية الأصنام: الثاني: أنه ثبت في علم الأصول أن القول بنفي الشريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباتها بقول الرسول عليه السلام، وعلى هذا فكأنه قيل: لما ثبت عجز الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقاً، وثبت كون محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً في دعوى الرسالة، ثم إنه كان يخبر عن أنه لا إله إلا الله فلما ثبت كونه محقاً في دعوى النبوة ثبت قوله: {أَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} الثالث: أن ذكر قوله: {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} جار مجرى التهديد، كأنه قيل: لما ثبت بهذا الدليل كون محمد عليه السلام صادقاً في دعوى الرسالة وعلمتم أنه لا إله إلا الله، فكونوا خائفين من قهره وعذابه واتركوا الإصرار على الكفر واقبلوا الإسلام ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة عند ذكر آية التحدي: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التى وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ للكافرين} [البقرة: 24].
وأما قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ}.
فإن قلنا: إنه خطاب مع المؤمنين كان معناه الترغيب في زيادة الإخلاص. وإن قلنا: إنه خطاب مع الكفار كان معناه الترغيب في أصل الإسلام.


{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)}
اعلم أن الكفار كانوا ينازعون محمداً صلى الله عليه وسلم في أكثر الأحوال، فكانوا يظهرون من أنفسهم أن محمداً مبطل ونحن محقون، وإنما نبالغ في منازعته لتحقيق الحق وإبطال الباطل، وكانوا كاذبين فيه، بل كان غرضهم محض الحسد والاستنكاف من المتابعة، فأنزل الله تعالى هذه الآية لتقرير هذا المعنى. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18] وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا ومالَهُ فِي الأخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن في الآية قولين:
القول الأول: أنها مختصة بالكفار، لأن قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا} يندرج فيه المؤمن والكافر والصديق والزنديق، لأن كل أحد يريد التمتع بلذات الدنيا وطيباتها والانتفاع بخيراتها وشهواتها، إلا أن آخر الآية يدل على أن المراد من هذا العام الخاص وهو الكافر، لأن قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الأخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لا يليق إلا بالكفار، فصار تقدير الآية: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط، أي تكون إرادته مقصورة على حب الدنيا وزينتها ولم يكن طالباً لسعادات الآخرة، كان حكمه كذا وكذا، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فيه، فمنهم من قال: المراد منهم منكرو البعث فإنهم ينكرون الآخرة ولا يرغبون إلا في سعادات الدنيا، وهذا قول الأصم وكلامه ظاهر.
والقول الثاني: أن الآية نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول عليه السلام الغنائم من دون أن يؤمنوا بالآخرة وثوابها.
والقول الثالث: أن المراد: اليهود والنصارى؛ وهو منقول عن أنس.
والقول الرابع: وهو الذي اختاره القاضي أن المراد: من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها، وعمل الخير قسمان: العبادات، وإيصال المنفعة إلى الحيوان، ويدخل في هذا القسم الثاني البر وصلة الرحم والصدقة وبناء القناطر وتسوية الطرق والسعي في دفع الشرور وإجراء الأنهار. فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافر لأجل الثناء في الدنيا، فإن بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين، فكلها تكون من أعمال الخير، فلا جرم هذه الأعمال تكون طاعات سواء صدرت من الكافر أو المسلم.
وأما العبادات: فهي إنما تكون طاعات بنيات مخصوصة، فإذا لم يؤت بتلك النية، وإنما أتى فاعلها بها على طلب زينة الدنيا، وتحصيل الرياء والسمعة فيها صار وجودها كعدمها فلا تكون من باب الطاعات.
وإذا عرفت هذا فنقول قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} المراد منه الطاعات التي يصح صدورها من الكافر.
القول الثاني: وهو أن تجري الآية على ظاهرها في العموم، ونقول: إنه يندرج فيه المؤمن الذي يأتي بالطاعات على سبيل الرياء والسمعة، ويندرج فيه الكافر الذي هذا صفته، وهذا القول مشكل، لأن قوله: {أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الأخرة إِلاَّ النار} لا يليق المؤمن إلا إذا قلنا المراد أولئك الذين ليس لهم في الأخرة إلا النار بسبب هذه الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة المقرونة بالرياء، ثم القائلون بهذا القول ذكروا أخباراً كثيرة في هذا الباب.
روي أن الرسول عليه السلام قال: «تعوذوا بالله من جب الحزن» قيل: وما جب الحزن؟ قال عليه الصلاة والسلام: «واد في جهنم يلقى فيه القراء المراؤون».
وقال عليه الصلاة والسلام: «أشد الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيراً ولا خير فيه».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جمع القرآن، فيقال له ما عملت فيه؟ فيقول يا رب قمت به آناء الليل والنهار فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال: فلان قارئ، وقد قيل ذلك، ويؤت بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك فماذا عملت فيما آتيتك فيقول: وصلت الرحم وتصدقت، فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد، وقد قيل ذلك ويؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء وقد قيل ذلك» قال أبو هريرة رضي الله عنه ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي وقال: «يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة».
وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه ذكر هذا الحديث عند معاوية قال الراوي فبكى حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق وقال صدق الله ورسوله {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}.
المسألة الثانية: المراد من توفية أجور تلك الأعمال هو أن كل ما يستحقون بها من الثواب فإنه يصل إليهم حال كونهم في دار الدنيا، فإذا خرجوا من الدنيا لم يبق معهم من تلك الأعمال أثر من آثار الخيرات، بل ليس لهم منها إلا النار.
واعلم أن العقل يدل عليه قطعاً، وذلك لأن من أتى بالأعمال لأجل طلب الثناء في الدنيا ولأجل الرياء، فذلك لأجل أنه غلب على قلبه حب الدنيا، ولم يحصل في قلبه حب الآخرة، إذ لو عرف حقيقة الآخرة وما فيها من السعادات لامتنع أن يأتي بالخيرات لأجل الدنيا وينسى أمر الآخرة، فثبت أن الآتي بأعمال البر لأجل الدنيا لابد وأن يكون عظيم الرغبة في الدنيا عديم الطلب للآخرة ومن كان كذلك فإذا مات فإنه يفوته جميع منافع الدنيا ويبقى عاجزاً عن وجدانها غير قادر على تحصيلها، ومن أحب شيئاً ثم حيل بينه وبين المطلوب فإنه لابد وأن تشتعل في قلبه نيران الحسرات فثبت بهذا البرهان العقلي، أن كل من أتى بعمل من الأعمال لطلب الأحوال الدنيوية فإنه يجد تلك المنفعة الدنيوية اللائقة بذلك العمل، ثم إذا مات فإنه لا يحصل له منه إلا النار ويصير ذلك العمل في الدار الآخرة محبطاً باطلاً عديم الأثر.


{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)}
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر والتقدير: أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار، إلا أنه حذف الجواب لظهوره ومثله في القرآن كثير كقوله تعالى: {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء} [فاطر: 8] وقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل ساجدا وَقَائِماً} [الزمر: 9] وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
واعلم أن أول هذه الآية مشتمل على ألفاظ أربعة كل واحد محتمل. فالأول: أن هذا الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو.
والثاني: أنه ما المراد بهذه البينة.
والثالث: أن المراد بقوله: {يتلوه} القرآن أو كونه حاصلاً عقيب غيره.
والرابع: أن هذا الشاهد ما هو؟ فهذه الألفاظ الأربعة مجملة فلهذا كثر اختلاف المفسرين في هذه الآية.
أما الأول: وهو أن هذا الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو؟ فقيل: المراد به النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل: المراد به من آمن من اليهود كعبدالله بن سلام وغيره، وهو الأظهر لقوله تعالى في آخر الآية: {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} وهذا صيغة جمع، فلا يجوز رجوعه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بالبينة هو البيان والبرهان الذي عرف به صحة الدين الحق والضمير في {يتلوه} يرجع إلى معنى البينة، وهو البيان والبرهان والمراد بالشاهد هو القرآن، ومنه أي من الله ومن قبله كتاب موسى، أي ويتلو ذلك البرهان من قبل مجيء القرآن كتاب موسى.
واعلم أن كون كتاب موسى تابعاً للقرآن ليس في الوجود بل في دلالته على هذا المطلوب و{إِمَاماً} نصب على الحال، فالحاصل أنه يقول اجتمع في تقرير صحة هذا الدين أمور ثلاثة أولها: دلالة البينات العقلية على صحته.
وثانيها: شهادة القرآن بصحته.
وثالثها: شهادة التوراة بصحته، فعند اجتماع هذه الثلاثة لا يبقى في صحته شك ولا ارتياب، فهذا القول أحسن الأقاويل في هذه الآية وأقربها إلى مطابقة اللفظ وفيها أقوال أخر.
فالقول الأول: أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه هو محمد عليه السلام والبينة هو القرآن، والمراد بقوله: {يتلوه} هو التلاوة بمعنى القراءة وعلى هذا التقدير فذكروا في تفسير الشاهد وجوهاً: أحدها: أنه جبريل عليه السلام، والمعنى: أن جبريل عليه السلام يقرأ القرآن على محمد عليه السلام.
وثانيها: أن ذلك الشاهد هو لسان محمد عليه السلام وهو قول الحسن ورواية عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنهما قال: قلت لأبي أنت التالي قال: وما معنى التالي قلت قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما كان الإنسان إنما يقرأ القرآن ويتلوه بلسانه لا جرم جعل اللسان تالياً على سبيل المجاز كما يقال: عين باصرة وأذن سامعة ولسان ناطق.
وثالثها: أن المراد هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والمعنى أنه يتلو تلك البينة وقوله: {مِنْهُ} أي هذا الشاهد من محمد وبعض منه، والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنه بعض من محمد عليه السلام.
ورابعها: أن لا يكون المراد بقوله: {وَيَتْلُوهُ} القرآن بل حصول هذا الشاهد عقيب تلك البينة، وعلى هذا الوجه قالوا إن المراد أن صورة النبي عليه السلام ووجهه ومخايله كل ذلك يشهد بصدقه، لأن من نظر إليه بعقله علم أنه ليس بمجنون ولا كاهن ولا ساحر ولا كذاب والمراد بكون هذا الشاهد منه كون هذه الأحوال متعلقة بذات النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة هم المؤمنون وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بالبينة القرآن {وَيَتْلُوهُ} أي ويتلو الكتاب الذي هو الحجة يعني ويعقبه شاهد من الله تعالى، وعلى هذا القول اختلفوا في ذلك الشاهد فقال بعضهم: إنه محمد عليه السلام وقال آخرون: بل ذلك الشاهد هو كون القرآن واقعاً على وجه يعرف كل من نظر فيه أنه معجزة وذلك الوجه هو اشتماله على الفصاحة التامة والبلاغة الكاملة وكونه بحيث لا يقدر البشر على الإتيان بمثله، وقوله: {شَاهِدٌ مّنْهُ} أي من تلك البينة لأن أحوال القرآن وصفاته من القراآت متعلقة به.
وثالثها: قال الفراء: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} يعني الإنجيل يتلو القرآن وإن كان قد أنزل قبله، والمعنى أنه يتلوه في التصديق، وتقريره: أنه تعالى ذكر محمداً صلى الله عليه وسلم في الإنجيل، وأمر بالإيمان به.
واعلم أن هذين القولين وإن كانا محتملين إلا أن القول الأول أقوى وأتم.
واعلم أنه تعالى وصف كتاب موسى عليه السلام بكونه إماماً ورحمة، ومعنى كونه إماماً أنه كان مقتدى العالمين، وإماماً لهم يرجعون إليه في معرفة الدين والشرائع، وأما كونه رحمة فلأنه يهدي إلى الحق في الدنيا والدين، وذلك سبب لحصول الرحمة والثواب فلما كان سبباً للرحمة أطلق اسم الرحمة عليه إطلاقاً لاسم المسبب على السبب.
ثم قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} والمعنى: أن الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم في صحة هذا الدين يؤمنون.
واعلم أن المطالب على قسمين منها ما يعلم صحتها بالبديهة، ومنها ما يحتاج في تحصيل العلم بها إلى طلب واجتهاد، وهذا القسم الثاني على قسمين، لأن طريق تحصيل المعارف إما الحجة والبرهان المستنبط بالعقل وإما الاستفادة من الوحي والإلهام، فهذا الطريقان هما الطريقان اللذان يمكن الرجوع إليهما في تعريف المجهولات، فإذا اجتمعا واعتضد كل واحد منهما بالآخر بلغا الغاية في القوة والوثوق، ثم إن في أنبياء الله تعالى كثرة، فإذا توافقت كلمات الأنبياء على صحته، وكان البرهان اليقيني قائماً على صحته، فهذه المرتبة قد بلغت في القوة إلى حيث لا يمكن الزيادة فقوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} المراد بالبينة الدلائل العقلية اليقينية، وقوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} إشارة إلى الوحي الذي حصل لمحمد عليه السلام، وقوله: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إَمَامًا وَرَحْمَةً} إشارة إلى الوحي الذي حصل لموسى عليه السلام، وعند اجتماع هذه الثلاثة قد بلغ هذا اليقين في القوة والظهور والجلاء إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه.
ثم قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} والمراد من الأحزاب أصناف الكفار، فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس.
روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار».
قال أبو موسى: فقلت في نفسي إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن، فوجدت الله تعالى يقول: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} وقال بعضهم: لما دلت الآية على أن من يكفر به فالنار موعده، دلت على أن من لا يكفر به لم تكن النار موعده.
ثم قال تعالى: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ إِنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ} ففيه قولان: الأول: فلا تك في مرية من صحة هذا الدين، ومن كون القرآن نازلاً من عند الله تعالى، فكان متعلقاً بما تقدم من قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} [هود: 13] الثاني: فلا تك في مرية من أن موعد الكافر النار. وقرئ {مِرْيَةٍ} بضم الميم.
ثم قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} والتقدير: لما ظهر الحق ظهوراً في الغاية، فكن أنت متابعاً له ولا تبال بالجهال سواء آمنوا أو لم يؤمنوا، والأقرب أن يكون المراد لا يؤمنون بما تقدم ذكره من وصف القرآن.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8